اتسم عام 2024 السينمائي بشكل عالمي بالضخامة المشهدية والتكرار القصصي، أكبر وأشهر الأفلام الهوليوودية التي رسمت معالم العام سينمائياً إما كانت جزءاً ثانياً من فيلم أسطوري مثل «مصارع» Gladiator الجزء الثاني، أو «جوكر رقصة الجنون» Joker Foile A Deux، و«كثيب» Dune في جزئه الثاني، أو إعادة إنتاج لعمل مسرحي وإرث سينمائي خالد مثل «شرير» Wicked وهو نسخة سينمائية من مسرحية شهيرة من برودواي، كما أنه إعادة قراءة لشخصيات فيلم ورواية «ساحر أوز» أحد أشهر الأفلام الهوليوودية في تاريخها، بجانب الفيلم الذي هيمن على الحديث السينمائي، الذي يجمع إنتاجه بين هوليوود بنجومها والإنتاج المشترك بين الولايات المتحدة وفرنسا: المادة The Substance وهو الفيلم الذي يجمع بين شكل أوروبي من الجرأة البصرية والسردية وحجم الإنتاج الهوليوودي الكبير.
تعيد تلك الأعمال تعريف أصلها السينمائي والروائي أو تصنع نسخ مطابقة لإرثها الأصلي، وتعيد شكل هوليوود التقليدي في إنتاج أعمال مرتفعة الميزانية لكنها في ذلك التوقيت ذات جمهور جاهز يأتي لمتابعة ما يعرفه مسبقاً، نجحت تلك الأعمال في إرساء شكل أعمال العام باعتبارها أعمالاً مألوفة ذات قيمة تتعلق بالجماهيرية ومحاولة إعادة مفهوم دار العرض الشعبية، لكن لا يوجد منها ما هو عمل استثنائي، في الوقت نفسه يمكن استكشاف أعمال خارج هوليوود ليست على القدر نفسه من الضخامة والطابع الاستعراضي، مع ميل لاستكشاف تيمات أكثر أرضية وأقل ملحمية، تتنوع بين السياسة والتاريخ والمشكلات العائلية، وتيمات أكثر تجريدية مثل الحياة والموت، بعضها لمخرجين يصنعون أفلامهم الأولى، والبعض لمخرجين ذوي شهرة عالمية تتخطى اللغة والثقافة، نستكشف هنا بعض أفضل أفلام 2024 بعيداً عن هوليوود.
1- Dying
فيلم «الموت» لماتياس جريزنار المعروض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين، هو ملحمة عائلية من عدة فصول، تبلغ مدة الفيلم ثلاث ساعات خلالها يسرد يوميات أسرة ألمانية من عدة أجيال، زوج مسن يعيشان ما يبدو وكأنها نهاية أيامهما، بواقعية مضنية يصور «الموت» تقدم السن ومخاوف فقدان السيطرة، قبل أن ينتقل للابن (لارس اليدنجار) الذي يعمل كقائد أوركسترا في المدينة، ويعيش حياة شخصية متوترة وعلاقة عملية تجمعه بصديقه المؤلف الموسيقى الذي يرغب في التخلي عن حياته.
ينتقل الفيلم في فصوله اللاحقة إلى الابنة التي تعيش على الحافة بإدمان الكحوليات وهشاشة حياتها العملية والعاطفية، من خلال عدة خيوط يتعامل الموت مع حقيقة الموت، حتميته أو الرغبة في حدوثه، ويرسم صورة شخصية درامية وساخرة للأسرة الألمانية المعاصرة المحملة بتاريخ البلد القاتم ومحاضرها المرتبك.
مشهد من فيلم «Dying 2024»
2- «The Room Next Door»
الغرفة المجاورة هو الفيلم الطويل الأول باللغة الإنجليزية للمخرج الإسباني الأيقوني بيدرو ألمودوبار، يستكمل تيمة الموت في الفيلم السابق، لكن بشكل أقل سخرية وأكثر رومانسية، يتمحور الغرفة المجاورة حول صداقة سيدتين مارثا (تيلدا سوينتون) وإنجريد (جوليا موور) إحداهما مصابة بالسرطان في مرحلة متأخرة، تدعو صديقتها لمشاركتها أيام رحلتها الأخيرة كوسيلة للاختيار والتحكم في الحياة ورفض أن يكتب المرض نهايتها رغماً عنها.
يتعامل الغرفة المجاورة مع تيمته القاتمة بخفة ورقة، وكأنه طقس احتفالي، ويعكس في ديناميكية شخصياته تخوف أكبر يتعلق باضمحلال الحياة على الكوكب نفسه، فيصبح الموت مسألة شديدة الذاتية وشديدة العمومية في الوقت نفسه.
مشهد من فيلم «The Room Next Door 2024»
3- «The Devil's Bath»
استكمالاً لـ«تيمة الموت» يأتي فيلم «حمام الشيطان» وهو فيلم مصنف كفيلم رعب للثنائي النمساوي فيرونيكا فرانز وسيفيرين فيالا، تقع أحداث الفيلم في القرن السادس عشر على أطراف قرية نمساوية، يبدأ الفيلم بمشهد مروع لامرأة تلقي بطفل رضيع من فوق حافة شلال، ثم يمضي ساعتين في تتبع امرأة أخرى، منذ يوم زفافها، يتتبع الفيلم شخصية أجنيس (آنيا بلاشاج) في مهماتها اليومية، علاقتها المتوترة بزوجها الذي يلمح الفيلم إلى أنه يخفي هوية جنسية مغايرة، وتضرعها لله أن يرزقها طفلاً، مع الوقت ووسط أيام رتيبة من الغسيل عند النهر وحلب البقر وذبح الماعز تدخل أجنيس في دوامة من الاكتئاب الشديد يصور الفيلم بتمهل تحولها من الحيوية إلى الخمول، يفقد وجهها لونه وتفقد القدرة على أداء أبسط المهام.
يتعامل حمام الشيطان مع وثائق وحكايات تاريخية لكنه يختار أن يسرد قصته بشكل متمهل وسط جمال طبيعي وقبح إنساني، يدفع ببطلته التي لا تجد من يستمع لها لارتكاب أبشع الجرائم آملة أن يخلصها العقاب من عذابها على الأرض.
مشهد من فيلم «2024 The Devil's Bath»
4- «bird»
في فيلمها الطويل الرابع «طائر» تستكمل أندريا أرنولد رحلاتها في عوالم إنجلترا المهمشة، وتكتشف كعادتها نجمة جديدة، تقوم بدور بايلي (نيكيا آدامز) المراهقة التي ولدت لأبوين مراهقين في تجربة حياتية غير تقليدية، يصبح وجه نيكيا غير المألوف أكثر ألفة مع مشاهدة الفيلم وكأنك شاهدته طوال حياتك، في طائر تستدعي أرنولد حياتها الشخصية فقد ولدت لأبوين مراهقين على أطراف المجتمع.
في فيلمها تعطي بايلي ما لم تتحصل عليه أو ما تمنته وهو أن ترى من خلال أعين متفهمة، يدمج الفيلم بين شكل من الواقعية الاجتماعية المعاصرة والواقعية السحرية المخففة، لكي تغزل قصة عن النضوج والصداقة ورقة الغرباء، كما تصنع مزيجاً بصرياً بين التصوير التقليدي بكاميرا أنالوج لعالم شديد الرقمية، مما يصنع توتراً جمالياً يضفي على الفيلم طابعاً نوستالجياً وشديد المعاصرة في الوقت نفسه.
من فيلم Bird 2924
5- «دخل الربيع يضحك»
«دخل الربيع يضحك» الفيلم الأول لمخرجته نهى عادل، وهو فيلم استثنائي ذو ظروف مشاهدة استثنائية، فهو لم يعرض داخل مصر تجارياً، بل إن مشاهدته اقتصرت على عرضين في مهرجان القاهرة السينمائي، عرض أول في المسرح الكبير بدار الأوبرا وعرض ثان في سينما الزمالك، أصبح «دخل الربيع يضحك» ما يمكن تسميته مفاجأة المهرجان، فهو فيلم دون وجوه معروفة، دون تسويق مسبق، لكنه لاقى احتفاء وردود أفعال جماهيرية عارمة وغير متوقعة.
يتبع الفيلم بناء مفككاً، إذ يحوي أربع قصص منفصلة تتبع الربيع كإطار زمني وموضوعي، وفي كل قصة تبدأ الأحداث خافتة حتى تتصاعد في كرشيندو موسيقي متطرف. «دخل الربيع يضحك» تجربة إخراجية أولى متماسكة وتجريبية ذات روح حرة، تترجى أن تجد مساحة أكبر لعرض الجماهيري في مناخ سينمائي تكراري ومتوقع.
مشهد من «دخل الربيع يضحك» 2024
6- «Dahomey»
تكثف المخرجة الفرنسية السنغالية ماتي ديوب أعواماً من الاستعمار الأرضي والثقافي في مساحة ساعة زمنية في فيلمها الأحدث داهومي، وهو وثائقي بسيط ومرن سردياً به تتبع عودة بعض الآثار من فرنسا إلى وطنها الأصلي بنين، تحديداً من عهد المملكة الأفريقية داهومي، تدمج ديوب مجموعة من الصيغ الفيلمية، تضع للتماثيل أصواتاً داخلية ثم تنطلق منها إلى تصوير محادثة بين طلبة جامعيين يناقضون بحدة رمزية وقيمة أن تعيد فرنسا مجموعة أقل من 30 أثراً من أصل آلاف الآثار التي استحوذوا عليها في عصور استعمارهم.
يصبح الفيلم وثيقة تاريخية ومناقشة ثقافية عن معنى الحياة ما بعد الكولونيالية التي تستمر في حتى في ألسنة المستعمرين سابقاً، وفي انعدام سيطرتهم على تاريخهم الخاص.
من فيلم Dahomey 2024
7- «Soundtrack To A Coup D'etat»
امتداداً لتيمة الاستعمار، يأتي وثائقي آخر يناقض أجواء داهومي ذات الطابع الهادئ التأملي لكي يدمج موسيقى الجاز بمجموعة من الصور والمقاطع الأرشيفية التي تسرد تاريخ استعمار واستقلال الكونغو والعوامل التاريخية والجغرافية التي تداخلت في صناعة تاريخ الكونغو الحديث والمعاصر.
«موسيقى لانقلاب عسكري» هو فيلم صاخب وأكاديمي وثوري، على مستوى الشكل والمحتوى، يضبط إيقاعه على إيقاع أصوات الطبول والساكسفون وحنجرة لوي آرمسترونج، دون رواية صوتية ثابتة، يعتمد على الحقائق بلصق النصوص على الشاشة وكأنها مراجع بحثية، صانعاً تجربة بصرية سمعية وكذلك أدبية، تطرح شكلاً بديلاً لصناعة الأفلام الوثائقية.
8- «The New Year That Never Came»
يسرد «العام الجديد الذي لم يأتِ أبداً» لبوجدان موريسانو مجموعة خطوط قصصية لشخصيات متعددة في يوم واحد وهو اليوم الذي سبق اندلاع الثورة الرومانية على شاوشيسكو، في بناء يشبه فيلم ماجنوليا لبول توماس أندرسون، يبدأ العام الجديد بتمهل يبني شخصياته ويرسم دوافعهم وسياقاتها الاجتماعية والسياسية، قبل أن يوحدهم جميعاً في صوت واحد ضد نظام قمعي لا فكاك منه، الثورة الشهيرة التي سرعان ما تم الانقلاب عليها تصبح في فيلم موريسانو أداة درامية لتكثيف الأحداث للوصول إلى ذروة انفجار.
لاقى الفيلم رد فعل مؤثراً أثناء عرضه بمهرجان القاهرة، أصبحت مشاهدته أشبه بمقاومة صغيرة داخل دور عرض مغلقة عند الخروج منها يقابل المشاهدون بعربات الأمن حول منطقة وسط البلد أو الزمالك، فاز الفيلم بجائزة الهرم الذهبي وهي الجائزة الكبرى في المهرجان.
9- «أبو زعبل 89»
استكمالاً للمقاومات الصغيرة داخل دور العرض يأتي الوثائقي المصري «أبو زعبل»، قصة ذاتية لمخرجه بسام مرتضى تنطلق من الشخصي (علاقته بوالده) إلى العام علاقته وعلاقة والده وعلاقة المصريين بالسجون والاعتقالات السياسية.
يستخدم «أبو زعبل» مجموعة صيغ توثيقية من إعادة التمثيل والمقابلات الحوارية والسرد الصوتي، ليجمع شهادات شخصية عن سجن أبو زعبل عام 89، ومن خلال ذلك يعمل كفيلم منزلي ووثيقة شخصية لمخرجه وكأنه يستكشف ماضيه الشخصي عن طريق ماضي البلد وحاضرها السياسي، مثل العام الجديد الذي لم يأتِ أبداً مثل «أبو زعبل» انتصار سري صغير على الجهاز الرقابي المصري، بامتلاء قاعتي عرضه المحدودتين، أصبح فجأة الكلام عن التعذيب في السجون وسرد تواريخ الانتهاكات جزءاً من النقاش العام للحظات صغيرة وسط القاهرة.
محمود وبسام مرتضى في «أبو زعبل» 2024
10- cloud
يمثل سحابة عودة المخرج الياباني الشهير كيوشي كوروساوا إرثه من أفلام الرعب ذات الطابع المتمهل الذي يتسلل ببطء مثل أحجية في طور التكون، يتناول سحابة قصة شاب يعمل في شراء السلع بأسعار رخيصة ثم بيعها بأسعار مرتفعة تبعاً لمبدأ الندرة أو ضغط الطلب، يعيش يوشي (ماساكي سودا) حياة منعزلة في شقته ترتادها حبيبته أحياناً لكن تواصله الرئيس مع العالم يحدث عن طريق شاشة الكمبيوتر ومندوبي التوصيل.
يرسم «سحابة» بورتريه للعنف الرقمي، حينما يتحول إلى عنف على أرض الواقع ويصنع صراعاً مرعباً وساخراً واعياً بزيفه السينمائي في الوقت نفسه، يصلح تطبيقه موضوعياً على عصرنا الحالي كما يصلح ليكون مجازاً للعنف في أي عصر.